ومن المرجح ان تؤدي المتغيرات الحالية في العلاقة بين الحكومة الروسية ومجموعة “فاغنر” إلى ترسيخ استراتيجية كل من الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، على رأسها فرنسا، الرامية لاستعادة علاقاتها الأمنية مع البلدان الأفريقية، لكن وفق نهج جديد، يضمن لها وجودا أكثر فاعلية بعدد أقل من الأفراد.
كما يتوقع أن تعمل فرنسا على الحفاظ على نفوذها من خلال آلية أوروبية مشتركة؛ حيث تشير تقارير إلى مباحثات مكثفة بين باريس ولندن وعواصم أوروبية أخرى، من أجل بلورة آلية مشتركة تنفذ فرنسا من خلالها المزيد من المهام والسلطات الأمنية في غرب أفريقيا.
وفي هذا الصدد، يرى أستاذ الإعلام والدراسات الاستراتيجية في الجامعات النيجيرية، معاذ أبو بكر، أن “الأمن والموارد هما العنصران الأكثر تأثيرا في التدخلات الخارجية بالقارة الأفريقية”.
لكنه يشير إلى “عنصر ضغط مهم، يتمثل في الاتجاه المتزايد الرافض لتلك التدخلات، خصوصا في أوساط الشباب”.
البعد الاقتصادي وفقر دول القارة السمراء
إضافة إلى البعد الأمني، فإن التنافس الرباعي سيركز؛ وفقا لمراقبين، على الجانب الاقتصادي في أفريقيا، التي تتركز فيها 30 في المئة من موارد العالم المعدنية والطبيعية؛ لكنها على الجانب الآخر تعاني من الفقر وتفشي الفساد.
وأدى ذلك إلى دخول 35 من دول القارة السمراء في قائمة ضمت 46 دولة صنفتها الأمم المتحدة كأقل بلدان العالم نموا.
وتفقد خزائن بلدان القارة سنويا نحو 90 مليار دولار، في شكل تدفقات مالية وتجارية غير مشروعة.
ويعيش 574 مليون من سكانها البالغ عددهم نحو 1.3 مليار نسمة في فقر مدقع، معتمدين على أقل من دولارين في اليوم.
التنافس الدولي في إفريقيا
“في حين ظلت كفة فرنسا لعقود طويلة هي الأكثر ترجيحا في العديد من بلدان غرب ووسط أفريقيا، فإن تزايد المشاعر المناهضة لوجودها هناك، والتي برزت بشكل جلي نهاية عام 2022 في مالي وبوركينا فاسو، وبدرجة أقل في تشاد، فتح الباب أمام زيادة الوجود الروسي عبر فاغنر”؛ وفقا للصحفي عبد الله جابر المتخصص بالشأن الأفريقي.
وبالتزامن مع خروج نحو 3 آلاف من الجنود الفرنسيين من مالي وبوركينا فاسو خلال الشهور الثلاثة الأولى من 2023؛ تزايد وجود عناصر فاغنر بشكل ملحوظ في البلدين.
على الأرض؛ كانت الأطراف الأربعة تخطو منذ وقت مبكر نحو ترسيخ وجودها في المنطقة، لكن عبر نهج مختلف:
- روسيا رفعت من وجودها العسكري في أفريقيا من خلال “فاغنر”، التي وصل عدد أفرادها إلى نحو 15 ألفا في 5 من بلدان إفريقية، حسب تقديرات مستقلة.
- الصين زادت حجم استثماراتها المباشرة هناك، التي وصلت إلى نحو 40 مليار دولار، فيما رفعت تجارتها السنوية مع بلدان القارة إلى أكثر من 290 مليار دولار.
- في الجانب الآخر، عملت كل من الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية على تعزيز وجودها الدبلوماسي، من خلال تعيين مبعوثين خاصين والانخراط أكثر في قضايا الأمن والسلام ومكافحة الجوع.
ويعكس هذا جانبا من الاستقطاب الأمني الاقتصادي الاستراتيجي الدولي الحاد حول منطقة القرن الإفريقي، الموغلة في الفقر والغنية بالموارد.
تهديد الأنشطة الإرهابية
وجاءت تلك التطورات في ظل متغيرات كبيرة حدثت بالمنطقة خلال السنوات الـ3 الماضية، نجمت عن سقوط وتغير أنظمة حكم في دول، مثل مالي وبوركينا فاسو.
كما تزامنت مع ازدياد المخاوف الأمنية في دول بغرب أفريقيا، حيث اتسعت رقعة الأنشطة الإرهابية بشكل غير مسبوق خلال الفترة الأخيرة، والتي أدت إلى مقتل وتشريد عشرات الآلاف من مناطقهم، خصوصا في مالي بوركينا فاسو ونيجيريا.
- زاد عدد الهجمات الإرهابية المنفذة في المنطقة بمعدل 55 في المئة.
- بذلك، ارتفعت حصتها إلى 35 في المئة من مجمل الوفيات الناجمة عن عمليات إرهابية في العالم، من 1 في المئة فقط في 2007.
وفي هذا السياق، يشير الصحفي جابر إلى أن “الغضب الشعبي من تزايد الهجمات الإرهابية، كان سببا في تأجيج المشاعر المعادية للوجود الفرنسي، إلى جانب تزايد الاعتقاد بوجود خلل كبير في العلاقات الاقتصادية”.
وعلى الرغم من فقدانها جزءا كبيرا من نفوذها الأمني، فإن فرنسا نجحت في الفترة الأخيرة في توسيع مظلة تعاونها العسكري، ليشمل 40 دولة أفريقية.
كما لديها قواعد عسكرية وبحرية في مواقع استراتيجية مختلفة في القارة، مكنتها من تنفيذ أكثر من 60 تدخلا عسكريا خلال العقود الستة الماضية.
المنافسة الأميركية الروسية
من جانبها، تسعى الولايات المتحدة إلى الاعتماد أكثر على النهج الاقتصادي، من خلال زيادة استثماراتها مع دول المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية، ورفع حجم تجارتها التي تبلغ حاليا نحو 61 مليار دولار سنويا.
وفي ظل تداخل العوامل الاقتصادية والأمنية؛ من المتوقع أن تستثمر الولايات المتحدة أكثر، في محاولة لتعرية الوجود الروسي في المنطقة.
وفي أحدث تقرير لها، قالت منظمة “ذي سنشري” الأميركية المتخصصة في دراسات مكافحة الفساد، إن “فاغنر أجرت تدريبات مكثفة لجنود في جمهورية إفريقيا الوسطى، تضمنت أساليب عنيفة للتعامل مع المعارضين”.
وتضيف المنظمة أن “فاغنر تتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي كبير، مكّنها من الاستيلاء على كميات ضخمة من الذهب والألماس”.
وتكمن أهمية البعد الاقتصادي في خريطة العلاقات الدولية الجديدة المتوقعة مع بلدان القارة الإفريقية، في التالي:
- القارة تستحوذ على 30 في المئة من موارد العالم المعدنية.
- تمتلك أيضا 8 في المئة من احتياطات الوقود الأحفوري.
- لدى إفريقيا 12 في المئة من احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم.
- تستحوذ كذلك على 65 بالمئة من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم.
- تعتبر إفريقيا منتج رئيسي لأكثر من 70 في المئة من المعادن المهمة للصناعات العالمية.
- يشمل ذلك اليورانيوم المستخدم بإنتاج الطاقة النووية، والبلاتين المستخدم بالمجوهرات والتطبيقات الصناعية، والنيكل المستخدم بالفولاذ المقاوم للصدأ والمغناطيس والعملات المعدنية والبطاريات القابلة لإعادة الشحن، وخام الألمنيوم والكوبالت المستخدم في أصباغ الألوان.
- تستحوذ إفريقيا على نحو ربع إنتاج العالم من الذهب والأحجار الكريمة عالية القيمة، مثل الألماس.
وعموما؛ يرجح المحلل السياسي المتخصص في الشأن الإفريقي، عالم سينيشو، أن يتخذ التنافس المستقبلي على القارة الأفريقية في ظل التحولات الحالية، شكل الانخراط في نهج متعدد الأطراف للتوفيق بين المصالح الاقتصادية والأمنية.
لكن خبير الاستراتيجيات الإفريقية، أبو بكر معاذ، يستبعد حدوث “أي انعكاسات إيجابية على أي من الدول الإفريقية المعنية بالتنافس الرباعي”، وذلك بسبب “طبيعة أنظمة الحكم التي لا يزال بعضها يعتمد على علاقات نفعية مع المستعمر القديم”.